733715018
رن جرس هاتف المعالج النفسي ليجد على الطرف الآخر أحد الزملاء من الأطباء يحيه ويطلب منه العناية بإحدى الحالات التي سيحيلها إليه. فيجيبه المعالج: بأنه يعتني بكل الحالات. قال الطبيب هذه قضيتها مختلفة وستشرحها لك عندما تأتيك مع أهلها. فطمأنه المعالج ووعده خيراً. دخل من الباب نفر من الناس مصطحبين معهم فتاة في العشرينات من العمر والبقية ينتظرون خارج العيادة فسألهم المعالج ما الأمر؟ أجابته الأم: هذه الفتاة مريضة وهي دائمة الخوف وسكتت. فقال لها المعالج من ماذا؟ أجابه أحد الأقارب (يبدو أنه أكثر طلاقة): هي الحقيقة تخاف من … وتردد قليلاً ثم واصل من الصراصير يا دكتور، لكن خوفها تجاوز الحدود إنه رعب خوف هائل غير مبرر، حاولنا إقناعها بشتى الطرق فلم يجد نفعاً، وقفنا معها وشجعناها فلم يفد شيئاً، ذهبنا بها إلى بعض المعالجين (الشعبيين) وكثرت التأويلات ولم ينجح معها علاج، صرفت لها المهدئات فلم تتأثر، وحولنا إليك الدكتور (…..). استكمل المعالج الاستماع إلى أقوال الأهل ثم انثنى ليستمع إلى شكوى الحالة فتلكأت ولم يكد يسمع صوتها المهزوز، حاول أن يطمأنها وأشار لها أن تنستأنف الحديث فكانت تتكلم بصوت متقطع وهي تتفحص الغرفة بعينين حذرتين أرضاً وحيطاناً ففطن إلى أنها تريد التأكد أن لاثمة صراصير في الغرفة فأراد طمأنتها بطريقة غير مباشرة قائلاً: ذكرتيني بالصراصير صار لي زمان لا أراهم فهم لا يوجدون هنا نتيجة لبعد المكان والنظافة المستمرة. وهنا هدأ روع الفتاة وبدأت تحكي قصة خوفها من الصراصير متى وكيف بدأت؟ وكيف تطورت؟. بدأت القصة عندما انهت غسل الثياب ونظفت نفسها في بيت الجيران وهي لا تتجاوز العاشرة من العمر فرأت صرصوراً كبيراً بالقرب من رجلها فصاحت وهربت – كان خوفاً ممتزجاً بقرف - وعادت إلى البيت وضخم هذا الخوف موقف أهلها الذين هولوا الأمر وكأنه مصيبة مما عزز الخوف لديها واستمر الحال كذلك حتى كانت ذات يوم في حمام صغير بمنزلهم فإذا بصرصار – بحجم الدبابة في نظرها- يقبل نحوها والباب مقفل فحوصرت وصرخت بصوتٍ جلب إليها الأهل مذعورين يسألون ما الخطب؟ وكسروا الباب ليجدوا الفتاة مغمى عليها في أرضية الحمام، وعندما أفاقت حكت القصة لهم. ومنذ ذلك الحين لم تقترب من الحمام (وهذا التجنب هو أحد الميكانزمات التي يلجأ إليها الشخص عقب الصدمة النفسية) وأتاح لها هذا الموقف الإعتماد المتزايد على الأهل الذي عزز عندها الاتكالية والميل للسلوك الطفلي وبدأ الخوف يتعمم على الناس لاسيما الغرباء منهم على شكل خوف غير منطقي وغير مبرر وهذه إحدى خصائص الرهاب. وحضرت الأخت الأكبر منها – تبدو طبيعية وشجاعة- لتروي للمعالج تفاصيل أدق، مما يدل على أنها ساهمت أيضاً في إعتماد أختها عليها. بدأت الجلسات العلاجية، ولا ينسى المعالج ذلك الموقف في أول جلسة عندما حاولت الخروج قبل الأهل خوفاً فأبقاها المعالج ثم أصرت على التمسك بالأم ثم بأحد الأقارب من الأطفال فأكد لها المعالج أنها ستبقى وستبدأ العلاج والاعتماد على الذات من هنا والآن، ولا تزال نظرتها المرتعبة في ذهنه إلى اليوم. وتمت الجلسات بأسلوبين أسلوب العلاج المعرفي لتغيير البنية المعرفية لديها وتبصبرها بمرضها وطريقة الشفاء منه وبأسلوب العلاج التنويمي الذي يساهم في تخليصها من الخوف والقرف اللاشعوري في أعماقها وتصحيح موقفها وإعطائها ثقة أكبر بنفسها – وليس لإخراج أسرارها كما هو المفهوم الشائع خطأً عن التنويم – واستمرت الجلسات (سبع جلسات) وبعد أن تأكد المعالج من أنها أصبحت طبيعية واثقة من نفسها جائت الجلسة الختامية وجاء موعد التقييم للعلاج وحضر الأهل الذين يتأهبون أيضاً للسفر بها إلى منطقتهم وكان التقييم هو : لا خوف من الناس، ولا خوف من الصراصير، ولا ملامح وجه مرتعب، ولا صوت مهزوز خافت بل واضح ومتزن. وهنا قال القريب الشاب لها لدي صرصور أخرجه الآن؟ قالت مبتسمة بثقة: أخرجه. قال: ستخافين وتصيحين. قالت له: بل أدوسه برجلي. ضحك الأهل جميعا،ً وتنفس المعالج الصعداء وهنا شعر بذلك الشعور الذي يترقبه منذ البداية ويترقبه كل معالج نفسي، آه لقد ربح القضية لقد أشعل شمعة ومسح دمعة لقد رأى نجاحه في نجاح الآخرين. هذا الموقف الذي لا يشترى بالمال بل بالعمل الدؤوب والعلم والصبر وانتابه شعور بالخشوع فحمد الله الذي وفقه.